العواطف الأساسية: هل هي فعلاً عالمية أم مكتسبة ثقافياً؟

هل يشعر الجميع بالعواطف بنفس الطريقة؟

تخيل أنك في قلب سوق مزدحم بالقاهرة، أو في شوارع طوكيو الصاخبة، أو حتى بين قبائل الأمازون النائية. عندما ترى طفلاً يبتسم أو امرأة تبكي، هل ستفهم ما يشعرون به رغم اختلاف اللغة والثقافة؟ هذا السؤال المحير شغل علماء النفس لعقود: هل العواطف البشرية عالمية ومتأصلة في طبيعتنا البيولوجية، أم أنها مكتسبة ومتشكلة بفعل البيئة والثقافة التي ننشأ فيها؟

في عالمنا المعاصر المترابط، أصبح فهم الطبيعة العالمية للعواطف أكثر أهمية من أي وقت مضى. فمع تقارب الثقافات وتداخلها، نحتاج إلى إدراك أعمق لكيفية تشكل مشاعرنا وتعبيرنا عنها، وكيف يمكن أن تختلف عبر الثقافات المختلفة (Mesquita et al., 2020).

ما هي العواطف الأساسية؟ التعريف والتصنيف

العواطف الأساسية هي مجموعة من المشاعر يُعتقد أنها فطرية وموجودة لدى جميع البشر بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية. قدم عالم النفس الشهير بول إيكمان أحد أكثر التصنيفات تأثيراً، حيث حدد ستة عواطف أساسية: السعادة، الحزن، الغضب، الخوف، الدهشة، والاشمئزاز (Ekman, 1992).

لكن التصنيفات الحديثة قد توسعت. فعلى سبيل المثال، اقترح روبرت بلوتشيك نموذج “عجلة العواطف” الذي يضم ثمانية عواطف أساسية: الفرح، الثقة، الخوف، المفاجأة، الحزن، الاشمئزاز، الغضب، والتوقع (Plutchik & Kellerman, 2013). واعتبر أن جميع العواطف الأخرى هي مزيج من هذه العواطف الأساسية، تماماً كما تتشكل الألوان الثانوية من مزج الألوان الأساسية.

يرى الباحثون أن هذه العواطف الأساسية تطورت لتساعدنا على البقاء: فالخوف يدفعنا للهروب من الخطر، والاشمئزاز يبعدنا عن المواد الضارة، والسعادة تعزز السلوكيات المفيدة. لكن السؤال يبقى: هل هذه العواطف متماثلة عند جميع البشر؟

النظرية العالمية للعواطف: هل نشترك جميعًا في المشاعر؟

في السبعينيات، سافر بول إيكمان إلى بابوا غينيا الجديدة لاختبار فرضيته حول عالمية العواطف. وجد أن أفراد قبيلة الفور، الذين لم يتعرضوا من قبل للثقافة الغربية، استطاعوا التعرف على تعابير الوجه المرتبطة بالعواطف الأساسية بدقة مذهلة (Ekman & Friesen, 1971).

تدعم هذه النظرية العديد من الملاحظات البيولوجية، فالأطفال حديثو الولادة يُظهرون نفس تعابير الوجه عند الشعور بالألم أو الفرح. والأكثر إثارة للاهتمام أن الأشخاص المكفوفين منذ الولادة، والذين لم يروا أبداً تعابير الوجه، يبتسمون أو يعبسون بنفس الطريقة التي يفعلها المبصرون.

وفي دراسة أجريت عام 2019، وجد فرانسيسكو وزملاؤه أن الناس من 12 ثقافة مختلفة استطاعوا التعرف على 6 انفعالات من خلال التعبيرات الصوتية فقط، مما يشير إلى وجود أساس بيولوجي مشترك للعواطف (Cowen et al., 2019).

النظرية الثقافية للعواطف: هل تلعب الثقافة دورًا في تشكيل مشاعرنا؟

على الجانب الآخر، تقدم ليزا فيلدمان باريت منظوراً مختلفاً تماماً. في كتابها “كيف تُصنع العواطف” (Barrett, 2017)، تجادل بأن العواطف ليست فئات عالمية موحدة، بل هي مفاهيم تتشكل من خلال تجاربنا الثقافية. وفقاً لنظريتها، نحن نتعلم كيفية تصنيف إحساساتنا الجسدية كعواطف محددة من خلال اللغة والتنشئة الاجتماعية.

هناك أدلة قوية تدعم هذا المنظور. فمثلاً، تتعامل الثقافات بشكل مختلف مع التعبير عن الغضب

  • في اليابان، يُنظر إلى كبت الغضب كفضيلة اجتماعية تحافظ على الهارموني الجماعي.
  • في بعض المجتمعات العربية، قد يكون التعبير المعتدل عن الغضب مقبولاً كدليل على الرجولة أو القوة.
  • في الثقافة الأمريكية، غالباً ما يُشجع التعبير الصريح عن الغضب تحت مسمى “الصدق مع الذات”.

كما أن بعض المشاعر تبدو فريدة ثقافياً ولا يوجد لها مقابل مباشر في ثقافات أخرى

  • “Hygge” (دنماركية): شعور بالدفء والراحة والسعادة في الأجواء الحميمة.
  • “Saudade” (برتغالية): حنين عميق لشيء غائب مع إدراك أنه قد لا يعود.
  • “Toska” (روسية): إحساس بالحزن العميق والشوق دون سبب محدد.

دراسات علمية: ماذا يقول البحث الحديث عن عالمية العواطف؟

الأبحاث الحديثة تقدم رؤية أكثر تعقيدًا للعواطف البشرية. في دراسة نُشرت عام 2021 في مجلة Nature Communications، استخدم الباحثون تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل ملايين التعبيرات الوجهية عبر ثقافات متعددة. وجدت الدراسة أن بعض العناصر الأساسية للتعبير العاطفي تظهر بشكل متسق عالمياً، لكن طريقة التعبير عنها وتفسيرها تختلف بشكل كبير حسب السياق الثقافي (Cowen et al., 2021).

كما أظهرت دراسة أجراها تاكاهاشي وزملاؤه (2018) أن الاستجابات الفسيولوجية للعواطف (مثل معدل ضربات القلب وتعرق الجلد) تظهر أنماطاً متشابهة بين الثقافات المختلفة، لكن التفسير الذاتي لهذه التجارب يختلف حسب الخلفية الثقافية للمشاركين.

الخلاصة المتبلورة من هذه الأبحاث تشير إلى نموذج تكاملي: يبدو أن الأساس البيولوجي للعواطف عالمي، لكن طريقة تعبيرنا عنها وتفسيرنا لها وحتى وعينا بها تتأثر بشدة بالثقافة.

دور الدماغ في توليد العواطف: نظرة من علم الأعصاب

تقدم أبحاث علم الأعصاب رؤى مهمة حول الأساس البيولوجي للعواطف. وفقاً للدراسات التصويرية للدماغ، تشارك مناطق محددة في معالجة المشاعر المختلفة:

  • اللوزة الدماغية (Amygdala): مركز أساسي لمعالجة الخوف والتهديدات، كما تبين أن نشاطها يزداد عند التعرض لوجوه غاضبة أو خائفة بغض النظر عن الخلفية الثقافية للمشاركين (Adolphs, 2013).
  • القشرة الحزامية الأمامية (Anterior Cingulate Cortex): تنشط عند الشعور بالألم العاطفي والاجتماعي، مثل الشعور بالرفض أو الإقصاء.
  • القشرة الجبهية (Prefrontal Cortex): تلعب دوراً رئيسياً في تنظيم العواطف والتحكم بها، ويختلف نشاطها بين الثقافات المختلفة عند تقييم نفس المواقف العاطفية (Ma et al., 2018).

هذه الاكتشافات تدعم فكرة أن للعواطف أساساً بيولوجياً مشتركاً، لكن الثقافة تؤثر على كيفية معالجة الدماغ لهذه المشاعر وتفسيرها.

كيف تؤثر اللغة في التعبير عن العواطف؟

اللغة ليست مجرد أداة للتعبير عن المشاعر، بل هي إطار يشكل تجربتنا العاطفية نفسها. تختلف اللغات بشكل كبير في عدد الكلمات التي تمتلكها للتعبير عن العواطف وفي دقة تمييزها بينها.

على سبيل المثال، تمتلك اللغة الإنجليزية كلمة واحدة للحب (love)، بينما تميز اللغة اليونانية القديمة بين ستة أنواع مختلفة من الحب: الإيروس (الحب الرومانسي)، الفيليا (الصداقة العميقة)، الستورج (الحب العائلي)، الأغابي (الحب غير المشروط)، اللودوس (الحب المرح)، والبراغما (الحب العملي).

وقد أظهرت دراسة حديثة أجراها ليندكويست وزملاؤه (2022) أن الأشخاص الذين لديهم مفردات عاطفية أكثر تنوعاً يمكنهم تمييز وإدارة مشاعرهم بشكل أفضل. هذا ما يسميه الباحثون “الإدراك العاطفي“، وهو القدرة على تحديد وتسمية المشاعر بدقة.

تطبيقات عملية: كيف نستفيد من فهم العواطف في حياتنا اليومية؟

فهم الطبيعة المزدوجة للعواطف – كونها عالمية وثقافية في آن واحد – يفتح آفاقاً جديدة للتطبيقات العملية

  • في مجال الصحة النفسية: يساعد فهم الاختلافات الثقافية في التعبير عن العواطف المعالجين النفسيين على تطوير مقاربات علاجية أكثر فعالية للمرضى من خلفيات ثقافية متنوعة.
  • في التواصل عبر الثقافات: يمكن للدبلوماسيين ورجال الأعمال الدوليين الاستفادة من فهم كيفية تأثير الثقافة على التعبير العاطفي لتجنب سوء الفهم.
  • في تربية الأطفال: يمكن للوالدين تعزيز “الذكاء العاطفي” لدى أطفالهم من خلال توسيع مفرداتهم العاطفية ومساعدتهم على فهم وإدارة مشاعرهم بشكل أفضل.

العواطف والذكاء الاصطناعي: هل يمكن للروبوتات أن تشعر مثلنا؟

مع التقدم السريع في مجال الذكاء الاصطناعي، أصبحت الأنظمة الآلية قادرة على التعرف على العواطف البشرية بدقة متزايدة من خلال تحليل تعابير الوجه ونبرة الصوت والإشارات الجسدية. لكن الفجوة بين التعرف على العواطف وتجربتها ذاتياً تظل هائلة.

يجادل الفيلسوف ديفيد تشالمرز بأن “المشكلة الصعبة للوعي” – كيف تنشأ التجارب الذاتية الواعية من العمليات الفيزيائية – تمثل حاجزاً أساسياً أمام محاكاة الذكاء الاصطناعي للعواطف البشرية الحقيقية (Chalmers, 1995).

لكن حتى مع عدم قدرة الآلات على “الشعور” حقيقةً، فإن تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على التعرف على العواطف عبر الثقافات المختلفة يمثل تحدياً كبيراً يعكس تعقيد التفاعل بين البيولوجيا والثقافة في تشكيل تجاربنا العاطفية.

الخاتمة: هل يمكننا بناء جسور عاطفية عبر الثقافات المختلفة؟

العواطف الأساسية قد تكون متجذرة في بيولوجيتنا المشتركة، لكن طريقة تعبيرنا عنها وفهمنا لها تتشكل من خلال نسيج الثقافة المعقد. فنحن نولد بالقدرة على الشعور، لكننا نتعلم كيف نسمي ونصنف ونتعامل مع مشاعرنا من خلال التنشئة الاجتماعية والنماذج الثقافية.

لتعزيز فهمك للعواطف وتحسين تواصلك العاطفي عبر الثقافات، إليك بعض النصائح العملية

  1. وسّع مفرداتك العاطفية: تعرف على كلمات من ثقافات مختلفة تصف مشاعر لا توجد لها مقابلات دقيقة في لغتك.
  2. طوّر الوعي الثقافي: اكتسب فهماً أعمق لقواعد التعبير العاطفي في الثقافات المختلفة.
  3. مارس التعاطف النشط: حاول فهم مشاعر الآخرين من منظورهم الثقافي الخاص، وليس من منظورك أنت.
  4. اعترف بالاختلافات: أدرك أن الاختلافات في التعبير العاطفي لا تعني بالضرورة اختلافاً في شدة أو صدق المشاعر.
  5. نمِّ ذكاءك العاطفي: طور قدرتك على التعرف على مشاعرك وفهمها وإدارتها، وكذلك فهم مشاعر الآخرين والتعامل معها بحساسية.

في عالم يزداد ترابطاً وتنوعاً يوماً بعد يوم، يصبح بناء الجسور العاطفية بين الثقافات المختلفة ليس مجرد مهارة مفيدة، بل ضرورة إنسانية لبناء مجتمع عالمي أكثر تفاهماً وتعاطفاً.

المصادر العلمية

  • Adolphs, R. (2013). The biology of fear. Current Biology, 23(2), R79-R93.
  • Barrett, L. F. (2017). How Emotions Are Made: The Secret Life of the Brain. Houghton Mifflin Harcourt.
  • Chalmers, D. J. (1995). Facing up to the problem of consciousness. Journal of Consciousness Studies, 2(3), 200-219.
  • Cowen, A. S., Keltner, D., Schroff, F., Jou, B., Adam, H., & Prasad, G. (2021). Sixteen facial expressions occur in similar contexts worldwide. Nature Communications, 12(1), 1-12.
  • Cowen, A. S., Elfenbein, H. A., Laukka, P., & Keltner, D. (2019). Universal vocal signals of emotion. Annual Review of Psychology, 70, 5.1-5.26.
  • Ekman, P. (1992). An argument for basic emotions. Cognition & Emotion, 6(3-4), 169-200.
  • Ekman, P., & Friesen, W. V. (1971). Constants across cultures in the face and emotion. Journal of Personality and Social Psychology, 17(2), 124-129.
  • Lindquist, K. A., Satpute, A. B., & Gendron, M. (2022). Does language do more than communicate emotion? Current Directions in Psychological Science, 31(3), 257-264.
  • Ma, Y., Wang, C., & Han, S. (2018). Neural responses to perceived pain in others predict real-life monetary donations in different socioeconomic contexts. NeuroImage, 180, 280-288.
  • Mesquita, B., Barrett, L. F., & Smith, E. R. (2020). The Mind in Context. Guilford Press.
  • Plutchik, R., & Kellerman, H. (2013). Theories of emotion. Academic Press.
  • Takahashi, J., Uchino, B. N., & Smith, T. W. (2018). Cultural differences in cardiovascular emotional dampening: A consideration of boundary conditions. International Journal of Psychophysiology, 123, 89-94.

0 Comments

Leave a Reply

Avatar placeholder

Your email address will not be published. Required fields are marked *