علم النفس الصحي: بين الوقاية والعلاج في مواجهة تحديات الصحة النفسية في المغرب
مقدمة
في خضم الطرقات المتشعبة لمدينة فاس العتيقة، حيث تلتقي أصداء الماضي بهموم الحاضر، تجلس السيدة فاطمة على عتبة دارها متأملة. تشكو من آلام جسدية متعددة زارت من أجلها العديد من الأطباء دون جدوى. هذه الصورة تختزل إشكالية كبرى في المنظومة الصحية المغربية: الفجوة بين الصحة الجسدية والنفسية. هنا يأتي دور علم النفس الصحي ليقدم منظوراً متكاملاً للصحة، متجاوزاً الثنائية التقليدية بين الجسد والنفس التي طالما هيمنت على الخطاب الطبي في المغرب.
ماهية علم النفس الصحي: رؤية متكاملة للإنسان
يُعرّف الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ علم النفس بجامعة محمد الخامس بالرباط، علم النفس الصحي بأنه “ذلك التخصص الذي يدرس العلاقة التبادلية بين الحالة النفسية والصحة الجسدية، ويسعى لفهم كيفية تأثير العوامل النفسية على الوقاية من المرض والحفاظ على الصحة والتعافي منه” (الشرقاوي، 2019).
ويضيف الباحث مصطفى المرابط في كتابه “الصحة النفسية في السياق المغربي” أن هذا العلم يتجاوز المقاربة الثنائية التقليدية التي تفصل الجسد عن النفس، ليقدم مقاربة شمولية “تستحضر البعد الثقافي والاجتماعي والاقتصادي في تفسير الظواهر المرضية وعلاجها” (المرابط، 2021).
إن أهداف علم النفس الصحي تتمحور حول تعزيز الصحة ومنع المرض والوقاية منه، وتحسين النظم الصحية وصياغة السياسات العامة المرتبطة بالصحة. هذه الأهداف تحولت في السياق المغربي إلى ضرورة ملحة في ظل تفاقم الأمراض النفسية وضعف البنية التحتية للصحة النفسية.
واقع الصحة النفسية في المغرب: صورة قاتمة تحتاج إعادة رسم
تشير الأبحاث الميدانية التي أجرتها الباحثة نعيمة الهواري في المجال الحضري والقروي بالمغرب، أن “48.9% من المغاربة يعانون من اضطرابات نفسية خفيفة إلى متوسطة، لكن أقل من 11% منهم يلجؤون للعلاج النفسي” (الهواري، 2022). هذه المفارقة تعكس إشكالية عميقة في التعاطي مع الصحة النفسية في المجتمع المغربي.
يلخص الدكتور عبد الرحيم أوجامع، استشاري الصحة النفسية، التحديات الأساسية للنظام الصحي النفسي المغربي في النقاط التالية
- قلة الموارد البشرية المتخصصة، حيث لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين 400 طبيب على المستوى الوطني.
- التوزيع غير المتكافئ للخدمات الصحية النفسية بين المدن والقرى.
- وصمة العار المرتبطة بالمرض النفسي والتي تحول دون التماس المساعدة.
- ضعف التنسيق بين مختلف المتدخلين في مجال الصحة النفسية.
ويضيف أوجامع: “لا يمكن فصل أزمة الصحة النفسية عن السياق السوسيو-اقتصادي؛ فالفقر والبطالة والهشاشة الاجتماعية تشكل عوامل خطر حقيقية تضاعف من احتمالية الإصابة باضطرابات نفسية” (أوجامع، 2020).
الوقاية النفسية: استثمار المستقبل
يؤكد الباحث عبد العزيز بنعبد الله في دراسته “استراتيجيات الوقاية النفسية في المجتمع المغربي” على أن “الوقاية تمثل الركيزة الأساسية لعلم النفس الصحي، وتتطلب مقاربة متعددة الأبعاد تراعي خصوصيات المجتمع المغربي” (بنعبد الله، 2023).
من التجارب الناجحة في هذا المجال، مشروع “صحة نفسية للجميع” الذي أطلقته جمعية أمل للصحة النفسية بطنجة، والذي يعتمد على:
- برامج توعوية في المدارس والمؤسسات التعليمية حول الصحة النفسية.
- تدريب مرشدين نفسيين في المجتمعات المحلية.
- دمج الممارسات الثقافية التقليدية (كالحكاية والفنون الشعبية) في برامج الدعم النفسي.
تقول الدكتورة ليلى المدني، منسقة المشروع: “نجحنا في خلق فضاءات آمنة للحديث عن المعاناة النفسية دون وصم، مستثمرين الموروث الثقافي المغربي الغني بآليات التضامن والتماسك الاجتماعي” (المدني، 2023).
دمج العلاج النفسي في المنظومة الصحية: رؤية متكاملة
يقترح الدكتور محمد الياقوتي، رئيس الجمعية المغربية للطب النفسي، “نموذجاً متدرجاً للرعاية النفسية يبدأ من مستوى الرعاية الأولية ويمتد إلى المستشفيات المتخصصة، مع تعزيز دور الطبيب العام في اكتشاف الاضطرابات النفسية وتوجيه المرضى” (الياقوتي، 2022).
ويدعو الياقوتي إلى “تجاوز النموذج الطبي البحت في التعاطي مع الاضطرابات النفسية، وتبني مقاربة متعددة التخصصات تجمع بين الطب والعلوم الاجتماعية، مع احترام خصوصية السياق المغربي”.
آفاق المستقبل: نحو نموذج مغربي للصحة النفسية
تلخص الباحثة سميرة الأزمي آفاق مستقبل علم النفس الصحي في المغرب قائلة: “التحدي الحقيقي يكمن في بناء نموذج وطني للصحة النفسية يجمع بين المعرفة العلمية الحديثة والموروث الثقافي المغربي، ويستجيب للحاجيات المتنوعة للمجتمع” (الأزمي، 2023).
ومن أجل تحسين الوصول إلى الرعاية النفسية في المناطق النائية والفقيرة، يقترح الباحثون المغاربة عدة استراتيجيات
- تطوير خدمات الصحة النفسية عن بعد (Télé-psychiatrie).
- تدريب متطوعين محليين كمساعدين نفسيين في المناطق النائية.
- دمج الصحة النفسية في برامج التنمية المحلية.
- الاستفادة من شبكات الدعم التقليدية والموارد المجتمعية.
خاتمة
يظل علم النفس الصحي في المغرب تخصصاً واعداً يحمل إمكانيات هائلة لإعادة هيكلة المنظومة الصحية وتجاوز ثنائية الجسد والنفس. إن المجتمع المغربي، بتنوعه الثقافي وديناميكيته الاجتماعية، يقدم أرضية خصبة لتطوير نماذج مبتكرة للوقاية والعلاج النفسي تستلهم من الموروث وتنفتح على التجارب العالمية.
كما تقول الباحثة نادية الزاهري: “الصحة النفسية ليست ترفاً، بل هي حق أساسي وضرورة تنموية. علينا أن نعيد النظر في أولوياتنا الصحية لنضع الإنسان بأبعاده المتعددة في صلب السياسات العمومية” (الزاهري، 2022).
0 Comments