علم النفس العصبي في المغرب: بين الحاجة إلى التشخيص الدقيق وإشكالية التأطير العلمي
مقدمة
تتشابك خيوط الواقع المغربي في مجال الصحة النفسية والعصبية كنسيج معقد، تتداخل فيه الحاجات المتزايدة مع محدودية الموارد، وتتقاطع فيه التطلعات العلمية مع إكراهات الممارسة. في هذا السياق، يبرز علم النفس العصبي كضرورة ملحة وكحقل معرفي يسعى لتجسير الفجوة بين فهمنا للدماغ البشري وتفسيرنا للسلوك الإنساني. هذا المقال يسبر أغوار هذا التخصص في السياق المغربي، متأملاً في واقعه الراهن، ومستشرفاً آفاقه المستقبلية.
جوهر علم النفس العصبي: تشريح العلاقة بين الدماغ والسلوك
يقف علم النفس العصبي على تخوم متعددة المعارف، مستلهماً من علوم الأعصاب والطب النفسي وعلم النفس المعرفي. يسعى هذا الحقل المعرفي إلى استكشاف العلاقة المتشابكة بين البنى الدماغية والوظائف النفسية، متجاوزاً الثنائية الديكارتية التقليدية التي تفصل بين الجسد والعقل.
والحق أن علم النفس العصبي ليس مجرد تراكم معرفي، بل هو ممارسة إكلينيكية تتجلى في القدرة على تقييم الوظائف المعرفية والانفعالية والسلوكية، وربطها بالتركيبات التشريحية والعمليات الفيسيولوجية للجهاز العصبي. تمتد مجالاته لتشمل دراسة الذاكرة والانتباه واللغة والإدراك البصري-المكاني والوظائف التنفيذية، مستكشفاً تأثيرات الإصابات الدماغية والاضطرابات العصبية على هذه القدرات.
التشخيص العصبي-النفسي: بوصلة للتدخل العلاجي
تكمن أهمية التشخيص العصبي-النفسي في كونه يقدم صورة تفصيلية عن القدرات المعرفية للفرد، محدداً نقاط القوة والضعف في الأداء النفسي-العصبي. هذا التشخيص يتجاوز مجرد تحديد موقع الخلل العصبي، ليصبح خارطة طريق للتدخل العلاجي، موجهاً لبرامج إعادة التأهيل المعرفي، ومرشداً لاستراتيجيات التكيف مع الإعاقات الناتجة عن الإصابات الدماغية.
في سياق الاضطرابات التنموية كاضطراب طيف التوحد وصعوبات التعلم، يوفر التقييم العصبي-النفسي فهماً عميقاً للآليات الكامنة خلف هذه الاضطرابات، مما يساعد في تصميم تدخلات تربوية وعلاجية أكثر فعالية. كما أنه يلعب دوراً محورياً في متابعة تطور الأمراض التنكسية كالخرف، وفي تقييم فعالية العلاجات الدوائية والتأهيلية.
واقع علم النفس العصبي في المغرب: مخاض التأسيس
إن المتأمل في واقع علم النفس العصبي بالمغرب يلاحظ أنه ما زال في طور التشكل والتأسيس. فرغم وجود بعض المبادرات الأكاديمية المتميزة، خاصة في جامعات الرباط والدار البيضاء وفاس، إلا أن التكوين المتخصص في هذا المجال يظل محدوداً، يفتقر إلى التكامل بين المعرفة النظرية والممارسة الإكلينيكية.
تعاني مختبرات البحث من شح الموارد وقلة الأدوات العصبية-النفسية المقننة على البيئة المغربية، مما يضطر الممارسين إلى الاعتماد على أدوات مستوردة، غالباً ما تكون غير ملائمة للخصوصيات الثقافية واللغوية المحلية. هذا الواقع يجعل من التشخيص العصبي-النفسي في المغرب عملية تكتنفها صعوبات منهجية وإشكاليات تطبيقية عميقة.
تحديات الممارسة: المعوقات والإكراهات
تتعدد التحديات التي تواجه علم النفس العصبي في المغرب، وتتنوع مصادرها. فمن جهة، هناك نقص حاد في المتخصصين القادرين على إجراء التقييمات العصبية-النفسية وتفسيرها، مما يؤدي إلى تأخر التشخيص وضعف التدخل المبكر، خاصة في المناطق القروية والنائية.
ومن جهة أخرى، يلاحظ غياب التنسيق بين مختلف التخصصات المعنية بالصحة العصبية والنفسية، إذ يعمل المتخصصون في جزر منعزلة، مما يحول دون تطوير مقاربة متكاملة للتشخيص والعلاج. يضاف إلى ذلك ضعف الوعي المجتمعي بأهمية التشخيص المبكر للاضطرابات العصبية-النفسية، والوصمة التي ما زالت تلاحق كل ما يرتبط بالصحة النفسية.
نحو أفق مستقبلي: مقترحات وتطلعات
لتجاوز هذه التحديات وتعزيز مكانة علم النفس العصبي في المنظومة الصحية المغربية، يمكن اقتراح عدة مسارات للعمل
- تطوير برامج تكوينية متخصصة: إنشاء مسالك جامعية مخصصة لعلم النفس العصبي، تجمع بين التكوين النظري العميق والتدريب الإكلينيكي المكثف.
- تقنين أدوات التشخيص: العمل على تكييف وتقنين الاختبارات العصبية-النفسية لتتلاءم مع البيئة المغربية، مراعية للخصوصيات الثقافية واللغوية والاجتماعية.
- تعزيز البحث العلمي: تشجيع البحوث الميدانية التي تستكشف خصوصيات الاضطرابات العصبية-النفسية في السياق المغربي، وتطوير برامج تأهيلية مبنية على الأدلة العلمية.
- بناء شبكات مهنية: إنشاء جمعيات وشبكات تجمع الممارسين والباحثين في مجال علم النفس العصبي، لتبادل الخبرات وتطوير الممارسات المهنية.
خاتمة
إن تطوير علم النفس العصبي في المغرب ليس ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة صحية واجتماعية. فالتشخيص الدقيق والتدخل المبكر يمكن أن يحدثا فرقاً جوهرياً في حياة الأفراد المصابين باضطرابات عصبية-نفسية، ويخففا من العبء الاقتصادي والاجتماعي لهذه الاضطرابات.
إن المسار نحو تطوير هذا الحقل يتطلب تضافر جهود مختلف الفاعلين، من مؤسسات أكاديمية وهيئات صحية ومجتمع مدني، لبناء منظومة متكاملة للتشخيص والتأهيل والدمج، تستجيب للحاجات المتزايدة، وترتقي إلى مستوى التحديات المتجددة.
0 Comments