علم النفس العلاجي بين العلم والشعوذة: كيف أصبح بائعو الأوهام يهددون الصحة النفسية؟

مقدمة

في فضاء متصدع بين العلم والشعوذة، تتسلل أصوات زائفة تدعي معرفة أسرار النفس البشرية. تغوي ضحاياها بوعود براقة ثم تتركهم في منتصف الطريق، في متاهة أكثر تعقيدًا مما بدأوا بها. هذه هي المعضلة التي تواجه مشهد الصحة النفسية في المغرب اليوم، حيث تتشابك خيوط العلاج الحقيقي مع نسيج الأوهام في سوق يتسع باستمرار. دعونا نسبر أغوار هذه الظاهرة التي تهدد أساسات الصحة النفسية في مجتمعنا.

علم النفس العلاجي: تأصيل علمي ومنهجي

علم النفس العلاجي هو ذلك التخصص الذي يستند إلى قواعد علمية راسخة، متجذرة في بحوث متراكمة وممارسات خضعت للتقييم الصارم على مدى عقود. إنه يتجاوز النظرة السطحية لمعاناة الإنسان، ليغوص في أعماق دوافعه، أفكاره وسلوكياته بمنهجية منظمة ومرتكزة على الدليل.

يقول الدكتور محمد العمراني، أستاذ علم النفس بجامعة محمد الخامس: “العلاج النفسي ليس مجرد كلمات تواسي أو نصائح تُقدّم في جلسة عابرة، بل هو مسار تحويلي يعتمد على تقنيات محددة، وأدوات قياس معيارية، وخطط علاجية مُصممة بعناية وفق احتياجات كل حالة”.

يعتمد العلاج النفسي العلمي على مقاربات متعددة تضم العلاج المعرفي السلوكي، والعلاج الدينامي، والعلاج الإنساني، وغيرها من الأساليب المعتمدة التي أثبتت فعاليتها في تخفيف الاكتئاب، القلق، اضطرابات الشخصية، والصدمات النفسية. هذه المقاربات تخضع باستمرار للتحديث والتطوير، ضمن حركة علمية تُسمى “الممارسة المبنية على الأدلة”.

التمييز بين المعالج المختص وبائع الوهم

كيف يمكن للمواطن العادي أن يميز بين المعالج الحقيقي وبائع الأوهام في سوق تعج بالمدعين؟ هنا تكمن صعوبة المشهد المغربي.

المعالج النفسي المؤهل يمتلك شهادات أكاديمية معترف بها، تضم على الأقل الإجازة في علم النفس، ثم الماستر والدكتوراه أو الدبلوم المتخصص في العلاج النفسي. يتبع ممارسات علاجية واضحة ومحددة، ويلتزم بمدونة أخلاقية صارمة تحمي المريض وتصون كرامته.

في المقابل، نجد بائعي الأوهام يتسترون خلف مسميات فضفاضة: “مستشار نفسي”، “معالج بالطاقة”، “خبير في البرمجة العصبية”، دون أسس علمية حقيقية أو تكوين معترف به. يعدون بنتائج سريعة، ويدّعون القدرة على علاج جميع الاضطرابات، ويستخدمون لغة غامضة تمزج بين العلم والخرافة.

تقول الأستاذة سلمى الناصري، باحثة في السياسات الصحية: “الفرق الجوهري يكمن في القابلية للمساءلة. المعالج الحقيقي يمكن مساءلته علميًا وأخلاقيًا ومهنيًا، أما بائع الوهم فيختبئ خلف ضبابية المفاهيم والوعود البراقة”.

العلاج النفسي في المغرب: تجارة مربحة على حساب المرضى

في السنوات الأخيرة، شهد المغرب تزايدًا ملحوظًا في عدد الممارسين غير المؤهلين في مجال الصحة النفسية. يمكن تفسير هذه الظاهرة بعدة عوامل

  1. الفراغ القانوني والتنظيمي: غياب إطار قانوني صارم ينظم مهنة العلاج النفسي ويحدد شروط ممارستها.
  2. الحاجة المتزايدة للخدمات النفسية: في ظل ارتفاع الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، تزداد معدلات الاضطرابات النفسية، مما يخلق سوقًا متناميًا للخدمات العلاجية.
  3. الوصم الاجتماعي: يدفع الخوف من الوصم بعض الأشخاص للبحث عن حلول “بديلة” تتستر خلف مسميات غير طبية.
  4. قلة الوعي: ضعف الثقافة النفسية لدى شريحة واسعة من المجتمع يسهل وقوعهم ضحية للادعاءات الكاذبة.

يقول الدكتور ياسين البكاري، رئيس الجمعية المغربية للتوعية النفسية: “لقد أصبح العلاج النفسي سلعة تُباع وتُشترى، وصناعة تدر أرباحًا طائلة على حساب معاناة الناس. نرى اليوم ‘معالجين’ يتقاضون أتعابًا باهظة مقابل جلسات لا تستند إلى أي أساس علمي، بل تعتمد على مهارتهم في الإقناع والتسويق”.

التأثيرات المدمرة للعلاج الزائف

التداعيات السلبية للعلاج الزائف لا تقتصر على الخسائر المادية فحسب، بل تمتد لتشمل:

  • تأخير العلاج الفعّال: قضاء الشخص أشهرًا أو سنوات في علاجات وهمية يؤخر حصوله على العلاج العلمي المناسب، مما قد يؤدي إلى تفاقم حالته.
  • الأضرار النفسية المباشرة: قد يؤدي العلاج الزائف إلى تعميق الاضطرابات النفسية، أو خلق اضطرابات جديدة نتيجة الممارسات غير المهنية.
  • زعزعة الثقة: فشل العلاج الزائف يؤدي غالبًا إلى فقدان الثقة في العلاج النفسي ككل، بما في ذلك الأساليب العلمية المثبتة.
  • التبعية والاستغلال: يعمل بعض المدعين على خلق علاقة تبعية مع العميل، تضمن استمرار التردد على العلاج وتكوين مصدر دخل ثابت.

حماية الصحة النفسية للمجتمع: خطوات عملية

لمواجهة هذه الظاهرة المتنامية، نحتاج إلى مقاربة متعددة الأبعاد

  1. التأطير القانوني: سن تشريعات واضحة تحدد شروط ممارسة العلاج النفسي، وفرض عقوبات رادعة على المخالفين.
  2. التوعية المجتمعية: نشر الثقافة النفسية السليمة عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي والمؤسسات التعليمية.
  3. تعزيز دور المؤسسات الرسمية: تفعيل دور وزارة الصحة والهيئات المهنية في الرقابة على الممارسين ومنح التراخيص.
  4. تحسين الوصول للخدمات النفسية: توفير خدمات نفسية ميسرة وبأسعار معقولة، مما يقلل اللجوء للبدائل غير العلمية.

خاتمة

في خضم المعركة بين العلم والشعوذة، تبقى الصحة النفسية للمجتمع هي الرهان الحقيقي. إن المسؤولية مشتركة بين المؤسسات الرسمية، والمختصين، ووسائل الإعلام، والمواطنين أنفسهم. فكما أن للجسد حق العلاج السليم، فللنفس أيضًا حق الرعاية العلمية المثبتة، بعيدًا عن وهم الحلول السريعة ودخان الشعارات البراقة.

لنجعل من الوعي سلاحنا، ومن العلم منهجنا، في مواجهة سوق الأوهام المتنامي الذي يهدد صحتنا النفسية وتماسك مجتمعنا.

Categories: Uncategorized

0 Comments

Leave a Reply

Avatar placeholder

Your email address will not be published. Required fields are marked *