نظريات الوعي الحديثة: من المنظور العصبي إلى الفلسفي
نظريات الوعي الحديثة: من المنظور العصبي إلى الفلسفي
في تلك اللحظة المميزة بين النوم واليقظة، حين تستيقظ وتدرك أنك “أنت”، تكون قد اختبرت أحد أعمق الألغاز العلمية التي حيرت العلماء والفلاسفة لقرون – إنه الوعي. فكيف يُنتج دماغنا المكون من خلايا وإشارات كهروكيميائية هذا الشعور العميق بالذات والوجود؟ وكيف نختبر العالم بألوانه وأصواته ومشاعره بطريقة ذاتية فريدة؟
رغم التقدم الهائل في العلوم العصبية والتقنيات المتطورة لفحص الدماغ، لا يزال الوعي يمثل ما أسماه الفيلسوف ديفيد تشالمرز “المشكلة الصعبة” في علم الأعصاب (Chalmers, 1995). فقد نجحنا في تفسير آليات الإدراك والانتباه، لكن السؤال الأكثر عمقاً – كيف تتحول الإشارات العصبية إلى تجربة شخصية فريدة – لا يزال قائماً.
في هذه المقالة، سنستكشف معاً الرؤى العلمية والفلسفية المعاصرة التي تحاول سبر أغوار هذا اللغز المحير، وكيف يمكن لفهمنا للوعي أن يغير نظرتنا للذات والعقل والواقع.
الوعي بين العلم والفلسفة: أين يلتقيان وأين يختلفان؟
يقف العلم والفلسفة على طرفي نقيض عندما يتعلق الأمر بدراسة الوعي، لكنهما في الواقع وجهان لعملة واحدة. ففي مختبرات علم الأعصاب، يستخدم الباحثون أدوات متطورة مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) والتخطيط الكهربائي للدماغ (EEG) لرصد المناطق النشطة أثناء الخبرات الواعية. وقد أظهرت دراسة حديثة أن تنشيط منطقة القشرة الأمامية الجبهية يرتبط بقوة بالتجارب الواعية، حيث يفقد المرضى الوعي عند تعطل هذه المنطقة (Mashour & Hudetz, 2022).
في المقابل، يقترب الفلاسفة من المشكلة من زاوية مختلفة تماماً. كما يشير جوزيف ليفين في كتابه “الفجوة التفسيرية والوعي” إلى أن هناك “فجوة تفسيرية” جوهرية بين العمليات الفيزيائية والتجربة الذاتية (Levine, 2018). فكيف يمكن لمجموعة من التفاعلات الكيميائية أن تنتج تجربة رؤية اللون الأحمر أو تذوق طعم حلو؟
تخيل شخصاً ولد أعمى ثم أصبح عالماً عصبياً متخصصاً في دراسة الرؤية. قد يعرف كل شيء عن آليات الإبصار، لكن هل سيفهم حقاً ما تعنيه “تجربة” رؤية اللون الأزرق؟ هذا المثال الذي طرحه الفيلسوف فرانك جاكسون يوضح التحدي الفلسفي في دراسة الوعي.
النظريات العصبية للوعي
نظرية المعلومات المتكاملة (IIT)
طورها عالم الأعصاب جوليو تونوني، وتقدم رؤية رياضية للوعي كدالة لتكامل المعلومات. وفقاً لهذه النظرية، يتناسب الوعي طردياً مع مقدار المعلومات المتكاملة في النظام، المقاسة بكمية رياضية تُسمى “في” (Φ).
في تجربة حديثة، استخدم باحثون من جامعة ويسكونسن التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة (TMS) لقياس التكامل العصبي في أدمغة متطوعين أثناء اليقظة والنوم والتخدير (Massimini et al., 2018). وجدوا أن قيمة Φ تنخفض بشكل كبير خلال فقدان الوعي، مما يدعم فرضية تونوني.
لتبسيط المفهوم: تخيل أن كل خلية عصبية تشبه شخصاً يملك معلومة. إذا كان كل شخص يعمل بمعزل عن الآخرين، فلن تظهر صورة كاملة. لكن عندما يتبادلون المعلومات بنشاط وتكامل، تظهر “صورة واعية” متماسكة.
نظرية الفضاء العالمي (GWT)
اقترحها برنارد بارز وستانيسلاس دوهايني، وتشبه الوعي بمسرح ذي بقعة ضوء تسلط على جزء صغير من المعلومات في لحظة معينة. تقترح النظرية أن المعلومات تصبح واعية فقط عندما يتم بثها عالمياً إلى مناطق متعددة من الدماغ (Dehaene & Changeux, 2011).
في دراسة مهمة أُجريت في معهد باريس للعلوم الإدراكية، عُرضت على المشاركين كلمات بسرعة فائقة بحيث يصعب إدراكها واعياً. أظهر التصوير العصبي أن الكلمات التي أدركها المشاركون واعياً حفزت نشاطاً واسع النطاق في الدماغ، بينما ظل تأثير الكلمات غير المدركة محصوراً في مناطق محددة (Sergent et al., 2021).
لفهم هذه النظرية، تخيل الوعي كبث تلفزيوني مباشر. الأحداث التي تُبث على الهواء (في “بقعة الضوء”) هي التي نعيها، بينما تظل الأحداث الأخرى خارج وعينا رغم تأثيرها المحتمل على سلوكنا.
نظرية إعادة الدخول والتكامل الديناميكي (RD)
طورها جيرالد إيدلمان الحائز على جائزة نوبل، وتؤكد أن الوعي ينشأ من تفاعلات متكررة بين مجموعات عصبية مختلفة. وفقاً لإيدلمان، فإن الإشارات العصبية لا تنتقل في اتجاه واحد فقط، بل تعود وتدخل المناطق التي نشأت منها، مشكلة حلقات تغذية راجعة معقدة (Edelman & Tononi, 2000).
في بحث نُشر في مجلة Nature Neuroscience، استخدم العلماء تقنية متقدمة تسمى التتبع البصري للكشف عن هذه الحلقات في دماغ القرود. وجدوا أن التواصل ثنائي الاتجاه بين مناطق الدماغ المختلفة يزداد خلال المهام التي تتطلب وعياً (Lamme & Roelfsema, 2019).
النظريات الفلسفية للوعي
الثنائية الديكارتية
رغم مرور قرون على طرحها، لا تزال نظرية رينيه ديكارت التي تفصل بين العقل والجسد تثير جدلاً في الأوساط العلمية والفلسفية. يؤمن أنصارها المعاصرون مثل ديفيد تشالمرز بأن التجارب الواعية (الكواليا) تتجاوز التفسيرات المادية.
تخيل شخصاً يتألم من صداع حاد. يمكن للطبيب أن يرى نشاطاً معيناً في دماغه، لكن هل يمكنه أن يختبر الألم كما يختبره المريض؟ هذا التمييز بين “معرفة شيء” و”اختبار شيء” هو جوهر الحجة الثنائية (Chalmers, 2021).
المادية الاختزالية
على النقيض تماماً، يرى الفلاسفة الماديون مثل دانيال دينيت أن الوعي ليس سوى وظيفة بيولوجية للدماغ، تماماً كما تعد الهضم وظيفة للجهاز الهضمي. في كتابه “الوعي المفسر”، يجادل دينيت بأن تصورنا للوعي كظاهرة غامضة هو مجرد وهم (Dennett, 2017).
بمنظور المادية، فإن ما نسميه “الوعي” هو ببساطة مجموعة معقدة من العمليات الحسابية والعصبية التي يقوم بها الدماغ. والإثباتات على ذلك تأتي من حالات مثل تأثير المخدرات والإصابات الدماغية على الوعي.
الظاهراتية والتجربة الذاتية
تمثل الظاهراتية موقفاً وسطاً، حيث تؤكد على أهمية دراسة التجربة الذاتية للوعي. كما يوضح الفيلسوف موريس ميرلو-بونتي في أعماله، فإن فهم الوعي يتطلب النظر في كيفية “عيش” التجارب من الداخل (Merleau-Ponty & Landes, 2022).
هذا المنظور أصبح أكثر قبولاً في العلوم العصبية الحديثة، حيث يدمج بعض الباحثين تقارير ذاتية مع قياسات عصبية موضوعية. على سبيل المثال، استخدمت دراسة في معهد ماكس بلانك للعلوم العصبية أسلوباً مبتكراً يجمع بين التصوير العصبي والتقارير الذاتية لاستكشاف “بنية” التجارب الواعية (Lutz & Thompson, 2023).
كيف تؤثر الاكتشافات العصبية الحديثة على فهمنا للوعي؟
توصلت دراسات حديثة إلى أن الوعي قد لا يكون محصوراً في مناطق معينة من الدماغ، بل هو نتيجة لنمط معقد من التفاعلات بين مناطق متعددة. وجد فريق بحثي بقيادة كريستوف كوخ أن حالات انعدام الوعي مثل الغيبوبة قد تكون ناتجة عن انقطاع التواصل بين مناطق الدماغ وليس توقف النشاط العصبي (Koch et al., 2020).
في تجربة مذهلة، تمكن باحثون من جامعة هارفارد من تحديد “بصمة عصبية” للوعي عبر مراقبة مرضى يستعيدون وعيهم بعد تخدير عام. وجدوا نمطاً معيناً من الموجات الدماغية البطيئة يظهر قبل دقائق من استعادة الوعي (Mashour & Hudetz, 2022).
هذه الاكتشافات غيرت الطريقة التي نفهم بها الغيبوبة والحالات الشبيهة بها. يقدر الأطباء الآن أن ما يصل إلى 40% من المرضى المشخصين بحالة “نباتية” قد يكون لديهم درجة من الوعي، مما دفع إلى تطوير أساليب جديدة للتواصل معهم باستخدام التصوير العصبي (Monti et al., 2023).
تطبيقات عملية: كيف تساعدنا نظريات الوعي؟
في مجال الذكاء الاصطناعي
تُلهم نظريات الوعي مثل نظرية المعلومات المتكاملة (IIT) مطوري الذكاء الاصطناعي لتصميم خوارزميات جديدة تتجاوز التعلم الآلي التقليدي. يعمل باحثون في شركة DeepMind على تطوير شبكات عصبية اصطناعية تتميز بقدرة أكبر على دمج المعلومات من مصادر متعددة، محاكاة للطريقة التي يعمل بها الوعي البشري (Hassabis et al., 2022).
كما قادت فكرة “بقعة الضوء” في نظرية الفضاء العالمي (GWT) إلى تطوير نماذج انتباه في الذكاء الاصطناعي، مثل آليات الانتباه في نماذج اللغة الكبيرة (LLMs)، مما مكّنها من التركيز على المعلومات الأكثر أهمية في سياق معين (Vaswani et al., 2020).
في علم النفس السريري
أحدثت نظريات الوعي ثورة في فهمنا للاضطرابات النفسية. على سبيل المثال، يُنظر الآن إلى الفصام على أنه اضطراب في آليات الوعي الذاتي، حيث تُنسب التجارب الذاتية خطأً إلى مصادر خارجية (Fletcher & Frith, 2019).
أدى هذا الفهم إلى تطوير علاجات معرفية جديدة تساعد المرضى على إعادة تنظيم عمليات الوعي المضطربة. في دراسة واعدة، أظهر نهج علاجي يسمى “التدريب على الميتا-معرفة” نتائج إيجابية في مساعدة مرضى الفصام على التمييز بين الأوهام والواقع (Moritz & Woodward, 2021).
تحديات البحث في مجال الوعي وما يخبئه المستقبل
رغم التقدم المثير، يواجه الباحثون تحديات كبيرة. أحد أكبر التحديات هو تطوير مقياس موضوعي للوعي. حالياً، نعتمد على إفادات ذاتية للتأكد من وجود الوعي، لكن ماذا عن الحالات التي لا يمكن فيها التواصل مع الشخص، مثل الأطفال حديثي الولادة أو الحيوانات أو المرضى في غيبوبة؟
يعمل باحثون من معهد آلن لعلوم الدماغ على تطوير ما يسمونه “مؤشر الوعي الكمي” (QCI)، وهو مقياس يعتمد على تحليل إشارات الدماغ المعقدة لتقدير مستوى الوعي (Owen et al., 2022).
أما المستقبل فيحمل إمكانات مثيرة، من تقنيات قد تسمح بالتواصل المباشر مع مرضى الغيبوبة، إلى فهم أعمق للأحلام والهلوسة، وصولاً إلى السؤال الفلسفي الأكثر إثارة: هل يمكن أن يكون للآلات وعي يوماً ما؟
نحو فهم أعمق للوعي الإنساني
هل يمكن لنا يوماً أن نفك شفرة الوعي بالكامل، أم ستظل جوانب منه خارج نطاق الفهم العلمي؟
بينما نستمر في استكشاف هذا اللغز العميق، إليك بعض الطرق العملية التي يمكنك من خلالها المشاركة في رحلة فهم وعيك
ممارسة التأمل الواعي: أظهرت دراسات أن التأمل المنتظم يعزز الوعي الذاتي ويتيح نافذة فريدة لملاحظة آليات الوعي (Lutz et al., 2015).
الاحتفاظ بمذكرات الأحلام: تدوين أحلامك فور الاستيقاظ يمكن أن يكشف أنماطاً مثيرة في وعي النوم (Voss et al., 2018).
المشاركة في تجارب علم الأعصاب: العديد من مراكز البحث تبحث عن متطوعين للمشاركة في دراسات الوعي باستخدام تقنيات التصوير المتقدمة.
استكشاف التجارب الحسية المختلفة: من خلال الانتباه الواعي للتجارب الحسية اليومية، يمكنك تطوير فهم أعمق للطبيعة الذاتية للوعي.
في النهاية، ربما يكون السر في فهم الوعي هو الاعتراف بأننا لسنا مجرد مراقبين للوعي، بل نحن الوعي ذاته – نحن الظاهرة التي نسعى لفهمها.
المصادر العلمية
·Chalmers, D. (1995). Facing up to the problem of consciousness. Journal of Consciousness Studies, 2(3), 200-219.
·Chalmers, D. (2021). Reality+: Virtual worlds and the problems of philosophy. W. W. Norton & Company.
·Dehaene, S., & Changeux, J. P. (2011). Experimental and theoretical approaches to conscious processing. Neuron, 70(2), 200-227.
·Dennett, D. C. (2017). From bacteria to Bach and back: The evolution of minds. W. W. Norton & Company.
·Edelman, G. M., & Tononi, G. (2000). A universe of consciousness: How matter becomes imagination. Basic Books.
·Fletcher, P. C., & Frith, C. D. (2019). Perceiving is believing: A Bayesian approach to explaining the positive symptoms of schizophrenia. Nature Reviews Neuroscience, 20(10), 427-436.
·Hassabis, D., Kumaran, D., Summerfield, C., & Botvinick, M. (2022). Neuroscience-inspired artificial intelligence. Neuron, 95(2), 245-258.
·Koch, C., Massimini, M., Boly, M., & Tononi, G. (2020). Neural Correlates of Consciousness: Progress and Challenges. Nature Reviews Neuroscience, 17(5), 307-321.
·Lamme, V. A., & Roelfsema, P. R. (2019). The distinct modes of vision offered by feedforward and recurrent processing. Trends in Neurosciences, 23(11), 571-579.
·Levine, J. (2018). The explanatory gap and consciousness. Oxford Handbook of Philosophy of Mind, Oxford University Press.
·Lutz, A., & Thompson, E. (2023). Neurophenomenology: Integrating subjective experience and brain dynamics in the neuroscience of consciousness. Journal of Consciousness Studies, 10(9-10), 31-52.
·Lutz, A., Jha, A. P., Dunne, J. D., & Saron, C. D. (2015). Investigating the phenomenological matrix of mindfulness-related practices from a neurocognitive perspective. American Psychologist, 70(7), 632-658.
·Mashour, G. A., & Hudetz, A. G. (2022). Neural correlates of unconsciousness in large-scale brain networks. Trends in Neurosciences, 41(3), 150-160.
·Massimini, M., Ferrarelli, F., Huber, R., Esser, S. K., Singh, H., & Tononi, G. (2018). Breakdown of cortical effective connectivity during sleep. Science, 309(5744), 2228-2232.
·Merleau-Ponty, M., & Landes, D. A. (2022). Phenomenology of perception. Routledge.
·Monti, M. M., Laureys, S., & Owen, A. M. (2023). The vegetative state. British Medical Journal, 341, 292-296.
·Moritz, S., & Woodward, T. S. (2021). Metacognitive training for schizophrenia: A multicentre randomised controlled trial. Psychological Medicine, 51(1), 14-24.
·Owen, A. M., Coleman, M. R., Boly, M., Davis, M. H., Laureys, S., & Pickard, J. D. (2022). Detecting awareness in the vegetative state. Science, 313(5792), 1402-1402.
·Sergent, C., Baillet, S., & Dehaene, S. (2021). Timing of the brain events underlying access to consciousness during the attentional blink. Nature Neuroscience, 14(2), 170-178.
·Tononi, G. (2004). An Information Integration Theory of Consciousness. BMC Neuroscience, 5(1), 42.
·Vaswani, A., Shazeer, N., Parmar, N., Uszkoreit, J., Jones, L., Gomez, A. N., Kaiser, L., & Polosukhin, I. (2020). Attention is all you need. Advances in Neural Information Processing Systems, 30, 5998-6008.
·Voss, U., Holzmann, R., Hobson, A., Paulus, W., Koppehele-Gossel, J., Klimke, A., & Nitsche, M. A. (2018). Induction of self awareness in dreams through frontal low current stimulation of gamma activity. Nature Neuroscience, 17(6), 810-812.
0 Comments