السيكولوجيا المعرفية كوجه حالي للسيكولوجيا العلمية

مقدمة

تُمثل السيكولوجيا المعرفية، في خضم التحولات الإبستمولوجية التي شهدتها العلوم الإنسانية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر السيكولوجي. هذا التحول الذي بدأ يتشكل مع بروز “الثورة المعرفية” في الخمسينيات، أفرز توجهاً يتجاوز النظرة الاختزالية للسلوك الإنساني نحو فهم أعمق للعمليات العقلية والبنيات المعرفية الكامنة وراء هذا السلوك. يسعى هذا المقال إلى إلقاء الضوء على ماهية السيكولوجيا المعرفية وموقعها ضمن المنظومة المعرفية المعاصرة، مع الإشارة إلى موقفها من التحليل النفسي، وتحليل الآفاق والتحديات الإبستمولوجية التي تواجهها في سياق التطور المتسارع للعلوم العصبية والذكاء الاصطناعي.

ماهية السيكولوجيا المعرفية

تشكل السيكولوجيا المعرفية نموذجاً معرفياً يهتم بدراسة العمليات العقلية العليا التي تتوسط بين المثير والاستجابة، كالإدراك، والانتباه، والذاكرة، واللغة، وحل المشكلات، واتخاذ القرار. ويمكن اعتبارها، كما يشير الغالي أحرشاو، “محاولة علمية لفهم طبيعة الفكر الإنساني من خلال تحليل الآليات الداخلية التي تنظم وتوجه السلوك”. فالإنسان، وفق هذا المنظور، ليس مجرد كائن يستجيب لمثيرات البيئة بشكل آلي، بل هو معالج نشط للمعلومات يمتلك القدرة على الترميز والتخزين والاسترجاع وإعادة تنظيم المعرفة.

انبثقت السيكولوجيا المعرفية كرد فعل على هيمنة المدرسة السلوكية التي سادت النصف الأول من القرن العشرين، والتي اختزلت الدراسة السيكولوجية في تحليل العلاقة المباشرة بين المثير والاستجابة، متجاهلة ما يحدث داخل “الصندوق الأسود”. وقد استطاعت السيكولوجيا المعرفية، من خلال استثمارها للتطورات التي عرفتها حقول معرفية متعددة، خاصة علوم الحاسوب واللسانيات والعلوم العصبية، أن تفتح آفاقاً جديدة لفهم الكيفية التي يعالج بها الدماغ البشري المعلومات.

وكما يؤكد عبد الكريم بلحاج، فإن “السيكولوجيا المعرفية تسعى إلى تجاوز التناول الوصفي للظواهر النفسية نحو بناء نماذج تفسيرية قادرة على استكشاف البنيات المعرفية العميقة، وبالتالي التأسيس لفهم أكثر شمولية للعقل البشري”.

موقف السيكولوجيا المعرفية من التحليل النفسي

تتخذ السيكولوجيا المعرفية موقفاً نقدياً من التحليل النفسي، وإن كانت تلتقي معه في بعض جوانب الاهتمام بالعمليات العقلية غير المباشرة. فبينما يؤسس التحليل النفسي مقاربته على مفاهيم كاللاشعور والكبت والرغبة، وعلى افتراض وجود مستويات مختلفة للجهاز النفسي (الهو، الأنا، الأنا الأعلى)، تتبنى السيكولوجيا المعرفية مقاربة أكثر “علمية” تستند إلى نماذج معالجة المعلومات وتستهدف بناء تفسيرات قابلة للاختبار التجريبي.

يرى أحرشاو أن “التحليل النفسي، رغم إسهاماته الثرية في كشف دينامية الحياة النفسية، يفتقر إلى الصرامة المنهجية التي تميز البحث العلمي المعاصر”. فالفرضيات التحليلية غالباً ما تكون غامضة ويصعب اختبارها تجريبياً، مما يجعلها عرضة للتأويلات المتعددة. في المقابل، تسعى السيكولوجيا المعرفية إلى صياغة نماذج دقيقة للعمليات العقلية، يمكن اختبارها والتحقق منها عبر الملاحظة والقياس.

ومع ذلك، ثمة اتجاه متنام في السنوات الأخيرة نحو إعادة قراءة بعض مفاهيم التحليل النفسي في ضوء المعطيات المعرفية والعصبية الجديدة. وكما يشير بلحاج، “فإن الحدود الفاصلة بين المقاربات المختلفة للنفس البشرية تبدو اليوم أقل صلابة مما كانت عليه في الماضي”. فمفاهيم مثل الذاكرة الضمنية والانفعالات اللاواعية تمثل نقاط التقاء محتملة بين البراديغم المعرفي والتحليل النفسي.

الآفاق والتحديات الإبستمولوجية

تواجه السيكولوجيا المعرفية، في سياق التطورات العلمية المتسارعة، مجموعة من التحديات الإبستمولوجية التي تتطلب إعادة النظر في بعض أسسها النظرية والمنهجية:

أولاً: تحدي العلاقة بين العقل والدماغ

يشكل فهم العلاقة بين العمليات العقلية والنشاط العصبي أحد أبرز التحديات التي تواجه السيكولوجيا المعرفية. فمع تطور تقنيات التصوير العصبي، أصبح من الممكن ملاحظة النشاط الدماغي المصاحب للعمليات المعرفية، مما فتح الباب أمام مقاربات تكاملية تجمع بين المستويين النفسي والعصبي. وكما يرى أحرشاو، “فإن مستقبل السيكولوجيا المعرفية مرتبط بقدرتها على بناء جسور متينة مع العلوم العصبية، دون أن يؤدي ذلك إلى ذوبان هويتها الإبستمولوجية”.

ثانياً: تحدي النماذج الحاسوبية

على الرغم من الإسهامات المهمة لنماذج معالجة المعلومات في فهم العمليات المعرفية، إلا أن التشبيه بين العقل البشري والحاسوب يواجه انتقادات متزايدة. فالعقل البشري، كما يشير بلحاج، “ليس مجرد آلة لمعالجة المعلومات، بل هو نظام معقد يتشكل من خلال التفاعل المستمر مع السياق الثقافي والاجتماعي”. ومن هنا، يبرز تحدي تطوير نماذج أكثر واقعية تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المرنة والسياقية للمعرفة الإنسانية.

ثالثاً: تحدي الوعي والتجربة الذاتية

على الرغم من التقدم الكبير في فهم العمليات المعرفية، لا تزال ظاهرة الوعي والتجربة الذاتية تشكل لغزاً محيراً للسيكولوجيا المعرفية. فكيف يمكن تفسير الكيفية التي تتحول بها العمليات العصبية إلى تجارب معاشة؟ وما هو دور العوامل الثقافية والاجتماعية في تشكيل الوعي الإنساني؟ هذه الأسئلة تدفع نحو مقاربات أكثر تكاملية تتجاوز الثنائيات التقليدية بين الموضوعي والذاتي، وبين الفردي والاجتماعي.

خاتمة

تقف السيكولوجيا المعرفية اليوم أمام منعطف حاسم في مسارها التطوري. فمن جهة، تتيح لها التطورات المتسارعة في العلوم العصبية والذكاء الاصطناعي آفاقاً جديدة لفهم آليات اشتغال العقل البشري. ومن جهة أخرى، تواجه تحديات إبستمولوجية تتطلب إعادة النظر في بعض أسسها النظرية والمنهجية.

إن مستقبل السيكولوجيا المعرفية، كما يرى كل من أحرشاو وبلحاج، رهين بقدرتها على تجاوز النزعة الاختزالية، وعلى بناء جسور متينة مع مختلف العلوم المهتمة بالظاهرة الإنسانية. فالعقل البشري، في تعقيده وثرائه، يتجاوز الحدود الضيقة للتخصصات العلمية التقليدية، ويتطلب مقاربة متعددة الأبعاد تجمع بين المعرفي والعصبي والثقافي والاجتماعي. وهنا يكمن التحدي الأكبر، وربما أيضاً، الأفق الأكثر إثارة للسيكولوجيا المعرفية في العصر الراهن.

Categories: Uncategorized

0 Comments

Leave a Reply

Avatar placeholder

Your email address will not be published. Required fields are marked *