كيف يتحكم الدماغ في الجوع والشبع؟ الآليات الفسيولوجية التي تؤثر على سلوكيات الأكل
كيف يتحكم الدماغ في الجوع والشبع؟ هل سبق أن استيقظت في منتصف الليل بسبب “قرقرة” معدتك رغم تناولك وجبة دسمة قبل النوم؟ أو ربما لاحظت أنك تشعر بالامتلاء في بعض الأيام بعد تناول القليل من الطعام، بينما تشعر بالجوع المستمر في أيام أخرى رغم تناولك كميات كبيرة؟ الجوع والشبع ليسا مجرد إحساسين جسديين بسيطين كما نعتقد، بل هما نتاج تفاعل معقد للغاية بين دماغنا وهرموناتنا والعوامل البيئية المحيطة بنا.
وفقًا لدراسة أجرتها جامعة ييل، فإن 75% من قراراتنا الغذائية لا تتعلق بالجوع الفسيولوجي، بل بعوامل أخرى مثل العواطف والإعلانات والروائح والوقت من اليوم (Lowe & Butryn, 2021). في هذا المقال، سنغوص في أعماق الآليات النفسية والفسيولوجية التي تتحكم في سلوكيات الأكل، وكيف يمكننا استخدام هذه المعرفة لتحسين علاقتنا بالطعام وتحقيق توازن صحي في حياتنا.
العلاقة بين الدماغ وسلوكيات الأكل: من يتحكم في شهيتنا؟
تخيل أن دماغك يحتوي على “مركز تحكم” متخصص في تنظيم الجوع والشبع – هذا بالضبط ما يقوم به تحت المهاد (Hypothalamus). هذه المنطقة الصغيرة من الدماغ، التي لا يتجاوز حجمها حبة اللوز، تعمل كمنسق رئيسي لشهيتنا ورغباتنا الغذائية.
تشير دراسة نشرت في مجلة “Nature Neuroscience” أن تحت المهاد يحتوي على مجموعتين من الخلايا العصبية: خلايا NPY/AgRP التي تحفز الجوع، وخلايا POMC/CART التي تكبح الشهية (Morton et al., 2022). عندما تنخفض مستويات الطاقة في الجسم، تنشط الخلايا المحفزة للجوع، وعندما نتناول الطعام وترتفع مستويات الجلوكوز والدهون في الدم، تنشط الخلايا المثبطة للشهية.
ولكن العملية أكثر تعقيدًا من ذلك. لنتخيل موقفًا عمليًا: عندما تمر بجانب مخبز وتشم رائحة الخبز الطازج، قد تشعر فجأة بالجوع رغم أنك تناولت وجبة مشبعة قبل ساعة فقط. هذا لأن الرائحة حفزت منطقة “المكافأة” في دماغك، وتجاوزت آليات الشبع الطبيعية.
هرمونات الجوع والشبع: كيف تؤثر على قراراتنا الغذائية؟
تعمل الهرمونات كرسائل كيميائية تنقل معلومات حول حالة الجسم إلى الدماغ. وتلعب دورًا محوريًا في تنظيم الشهية
الجريلين : المعروف بـ “هرمون الجوع”، يُفرز من المعدة عندما تكون فارغة. تشير الدراسات إلى أن مستويات الجريلين ترتفع قبل الوجبات وتنخفض بعدها مباشرة. الملفت أن الأشخاص الذين يعانون من قلة النوم تزداد لديهم مستويات الجريلين بنسبة تصل إلى 15%، مما يفسر زيادة الشهية عند الحرمان من النوم (Taheri et al., 2023).
2.اللبتين : “هرمون الشبع” الذي تفرزه الخلايا الدهنية. في دراسة أجريت على 500 شخص، وجد الباحثون أن الأشخاص الذين يعانون من مقاومة اللبتين (عدم استجابة الدماغ له) يميلون إلى الإفراط في تناول الطعام بمعدل 23% أكثر من غيرهم (Zhang et al., 2022).
3.الأنسولين: بالإضافة إلى دوره في تنظيم السكر، يعمل الأنسولين كمثبط للشهية في الدماغ. لاحظ الباحثون أن تناول الأطعمة ذات المؤشر الجلايسيمي المرتفع يسبب ارتفاعًا سريعًا في الأنسولين يتبعه انخفاض حاد، مما يؤدي إلى الجوع المبكر.
4.الكورتيزول: عندما نتعرض للتوتر، يرتفع مستوى الكورتيزول، مما يزيد الرغبة في تناول الأطعمة الغنية بالسكريات والدهون. في تجربة على طلاب الجامعات، تبين أن مستويات استهلاك الوجبات السريعة ترتفع بنسبة 40% خلال فترات الامتحانات (Cohen et al., 2023).
دور الغدة النخامية وتحت المهاد في التحكم بالجوع
تعمل الغدة النخامية وتحت المهاد كفريق متكامل في تنظيم التوازن الغذائي للجسم. وفقًا لدراسة نشرت في مجلة “Endocrinology & Metabolism”، فإن هذا التنسيق يحدث عبر آلية التغذية الراجعة السلبية (negative feedback) (Wang et al., 2023).
عندما تنخفض مستويات السكر في الدم، تكتشف مستقبلات خاصة في تحت المهاد هذا التغير، فترسل إشارات تحفز الشعور بالجوع. وعندما ترتفع مستويات هرمون اللبتين (مؤشر على امتلاء المخازن الدهنية)، تتوقف هذه الإشارات.
حالة عملية: المرضى الذين يعانون من أورام في منطقة تحت المهاد غالبًا ما يصابون باضطرابات في الشهية، إما بالإفراط في الأكل أو فقدان الشهية التام، مما يؤكد الدور المحوري لهذه المنطقة في تنظيم الجوع والشبع.
ماذا يحدث في الدماغ عندما نشعر بالجوع؟
عندما يصيبنا الجوع، تنشط عدة مناطق في الدماغ في وقت واحد:
·اللوزة الدماغية (Amygdala): تتحكم في الاستجابات العاطفية للجوع، وتفسر لماذا نصبح أكثر تهيجًا وحساسية عندما نجوع. أظهرت التصوير العصبي أن نشاط اللوزة الدماغية يزداد بنسبة 300% عند عرض صور لأطعمة شهية على أشخاص جائعين (Davidson et al., 2022).
·القشرة الأمامية (Prefrontal Cortex): مسؤولة عن اتخاذ القرارات المتعلقة بالأكل. عندما ننام لساعات أقل، تنخفض نشاط هذه المنطقة، مما يضعف قدرتنا على مقاومة الإغراءات الغذائية.
·نظام المكافأة (Reward System): يفرز الدوبامين عند تناول أطعمة لذيذة، خاصة الغنية بالسكر والدهون. هذا يفسر لماذا ما زلنا نشتهي الحلوى رغم الشبع – فنحن نسعى للمتعة وليس للطاقة.
مثال واقعي: أظهرت دراسة على متطوعين أن مشاهدة إعلانات الطعام التلفزيونية تزيد من نشاط نظام المكافأة بالدماغ بنسبة 25%، حتى لو كان المشاهد غير جائع فعليًا (Harris et al., 2023).
التأثير النفسي للجوع: كيف يؤثر على العواطف والسلوك؟
الجوع ليس مجرد إحساس جسدي، بل له تأثيرات نفسية عميقة:
·تأثير “الجوع الغاضب” (Hanger): دراسة أجريت في جامعة أوهايو وجدت أن انخفاض مستويات السكر في الدم يرفع مستويات هرمونات التوتر ويخفض القدرة على ضبط النفس. شارك 427 متزوجًا في الدراسة، وتبين أن الأزواج كانوا أكثر عرضة للجدال (بنسبة 40%) عندما كانوا جائعين (MacCormack & Lindquist, 2023).
·ضعف الإدراك والتركيز: تجربة في المدارس الثانوية أظهرت أن الطلاب الذين يتخطون وجبة الإفطار ينخفض أداؤهم في اختبارات الرياضيات بنسبة 17% مقارنة بالأيام التي يتناولون فيها وجبة متوازنة (Edwards et al., 2023).
·اتخاذ القرارات: في مجال التسوق، وجد الباحثون أن المتسوقين الجائعين ينفقون في المتوسط 25% أكثر على المشتريات غير المخطط لها مقارنة بالمتسوقين الشبعانين (Xu et al., 2022).
كيف يؤثر التوتر والإجهاد على شهيتنا؟
العلاقة بين التوتر والطعام معقدة ومثيرة للاهتمام. عندما نتعرض للتوتر، يرتفع مستوى الكورتيزول، مما يؤدي إلى زيادة الشهية، خاصة للأطعمة الغنية بالسكر والدهون. وفقًا لدراسة نشرت في مجلة “Psychoneuroendocrinology”، فإن 80% من الأشخاص الذين يعانون من التوتر المزمن يلجؤون إلى “الأكل العاطفي” كوسيلة للتعامل مع مشاعرهم السلبية (Torres & Nowson, 2023).
حالة عملية: خلال جائحة كوفيد-19، أشارت استطلاعات إلى أن 61% من الأمريكيين زادت شهيتهم للأطعمة غير الصحية استجابة للتوتر والقلق المرتبط بالجائحة. هذا يوضح كيف يمكن للظروف النفسية أن تغير بشكل كبير سلوكياتنا الغذائية.
تقنية عملية: أظهرت الأبحاث أن ممارسة التنفس العميق لمدة 5 دقائق قبل الوجبات يمكن أن تخفض مستويات الكورتيزول بنسبة 23%، مما يقلل من الرغبة في الأكل العاطفي (Brown et al., 2022).
اضطرابات الأكل: عندما يختل توازن الجوع والشبع
في بعض الحالات، يحدث خلل في آليات تنظيم الجوع والشبع، مما يؤدي إلى اضطرابات الأكل:
·اضطراب الشره المرضي (Binge Eating Disorder): وفقًا لدراسة نشرت في “Journal of Eating Disorders”، فإن الأشخاص المصابين بهذا الاضطراب يظهرون استجابة أضعف لهرمون اللبتين، مما يجعلهم أقل شعورًا بالشبع حتى بعد تناول كميات كبيرة من الطعام (Monteleone et al., 2022).
·فقدان الشهية العصبي (Anorexia Nervosa): أظهرت الدراسات أن هؤلاء المرضى لديهم مستويات مرتفعة من هرمون الكورتيكوتروبين (CRH)، الذي يثبط الشهية ويزيد من مستويات القلق (Misra & Klibanski, 2023).
·الشره المرضي العصبي (Bulimia Nervosa): ارتبط هذا الاضطراب بخلل في وظيفة السيروتونين، الناقل العصبي المسؤول جزئيًا عن تنظيم المزاج والشهية (Kaye et al., 2023).
قصة واقعية: سارة، طالبة جامعية تبلغ من العمر 22 عامًا، بدأت نوبات الأكل العاطفي بعد فترة من التوتر الدراسي. تحولت هذه النوبات تدريجيًا إلى اضطراب الشره المرضي. بعد العلاج النفسي وتعلم تقنيات إدارة التوتر، استطاعت سارة استعادة علاقة صحية مع الطعام والتمييز بين الجوع الفسيولوجي والعاطفي.
كيف يمكننا تنظيم آليات الجوع والشبع لصحة أفضل؟
يمكن تحسين توازن الجوع والشبع من خلال استراتيجيات مبنية على فهم عمل الدماغ:
تناول الأطعمة الغنية بالبروتين والألياف: أظهرت دراسة نشرت في مجلة “American Journal of Clinical Nutrition” أن وجبة تحتوي على 25-30 جرامًا من البروتين تزيد الشبع بنسبة 35% مقارنة بوجبة غنية بالكربوهيدرات بنفس السعرات الحرارية (Leidy et al., 2023).
تنظيم أوقات الوجبات: وجدت دراسة من جامعة هارفارد أن تناول الطعام في نفس الأوقات يوميًا يحسن استجابة هرمونات الجوع والشبع بنسبة 20% (Jakubowicz et al., 2022).
الأكل الواعي (Mindful Eating): أظهرت التجارب أن الأشخاص الذين يأكلون ببطء ويركزون على تجربة الطعام يستهلكون سعرات حرارية أقل بنسبة 10-15% ويشعرون بالرضا أكثر بعد الوجبات (Warren et al., 2022).
إدارة التوتر: ممارسة اليوجا والتأمل تخفض مستويات الكورتيزول، مما يقلل من الرغبة في الأكل العاطفي. دراسة على 120 مشاركًا وجدت أن ممارسة اليوجا 3 مرات أسبوعيًا قللت من نوبات الأكل العاطفي بنسبة 43% (Daubenmier et al., 2023).
كيف نجعل عادات الأكل أكثر وعيًا واتزانًا؟
هل تتساءل كيف يمكنك استخدام هذه المعرفة العلمية لتحسين علاقتك بالطعام في حياتك اليومية؟ إليك بعض النصائح العملية المستندة إلى الأبحاث
·احتفظ بمذكرة طعام عاطفية: دوّن مشاعرك قبل وبعد تناول الطعام لتحديد أنماط الأكل العاطفي.
·مارس قاعدة 20 دقيقة: انتظر 20 دقيقة قبل تناول حصة ثانية، فهذا هو الوقت الذي تحتاجه هرمونات الشبع للوصول إلى الدماغ.
·نظم بيئة طعامك: أظهرت الدراسات أن رؤية الطعام غير الصحي تحفز مناطق المكافأة في الدماغ، لذا احتفظ فقط بالأطعمة الصحية في متناول اليد.
·اشرب الماء قبل الوجبات: تناول كوب من الماء قبل 30 دقيقة من الوجبة يمكن أن يقلل من استهلاك السعرات الحرارية بنسبة 13%.
·خذ وقتًا كافيًا للنوم: 7-8 ساعات من النوم الجيد يوميًا تساعد في تنظيم هرمونات الجوع والشبع.
من خلال فهم كيفية عمل الدماغ والهرمونات في تنظيم الجوع والشبع، يمكننا تجاوز دورات الأكل المضطربة والتعامل مع الطعام كوسيلة للتغذية والاستمتاع بشكل متوازن. تذكر أن العلاقة الصحية بالطعام هي رحلة وليست محطة نهائية، وأن الوعي هو الخطوة الأولى والأهم نحو التغيير الإيجابي
المصادر
·Brown, J. et al. (2022). Effects of deep breathing on cortisol levels and emotional eating. Journal of Stress Management, 45(3), 289-301.
·Cohen, S. et al. (2023). Academic stress and dietary choices among university students. Journal of Health Psychology, 18(4), 412-425.
·Daubenmier, J. et al. (2023). Yoga practice and emotional eating: A randomized controlled trial. International Journal of Eating Behaviors, 56(2), 178-190.
·Davidson, R. et al. (2022). Neural correlates of hunger and food cravings. Neuroimage, 89(1), 45-53.
·Edwards, J. et al. (2023). Breakfast consumption and cognitive performance in adolescents. Pediatrics, 150(3), e2022010456.
·Harris, J. et al. (2023). Food advertising effects on brain reward circuits. Journal of Marketing Research, 60(2), 356-370.
·Jakubowicz, D. et al. (2022). Timing of food intake and hormonal regulation. American Journal of Clinical Nutrition, 115(4), 1203-1214.
·Kaye, W. et al. (2023). Neurobiology of bulimia nervosa. Biological Psychiatry, 93(9), 834-846.
·Leidy, H. et al. (2023). Protein-induced satiety: Effects on energy intake. American Journal of Clinical Nutrition, 117(5), 1558-1567.
·Lowe, M., & Butryn, M. (2021). Hedonic hunger: physiological versus cognitive factors. Annual Review of Psychology, 72, 391-417.
·MacCormack, J., & Lindquist, K. (2023). Hunger and interpersonal conflicts: A longitudinal study. Emotion, 23(3), 512-526.
·Misra, M., & Klibanski, A. (2023). Neuroendocrine dysregulation in anorexia nervosa. Trends in Endocrinology & Metabolism, 34(4), 300-314.
·Monteleone, P. et al. (2022). Leptin response in binge eating disorder. Journal of Eating Disorders, 10(1), 42-55.
·Morton, G. et al. (2022). Hypothalamic regulation of food intake and body weight. Nature Neuroscience, 25(8), 1005-1017.
·Nature Neuroscience (2021). The Role of Hypothalamus in Hunger Regulation.
·Psychoneuroendocrinology (2022). Cortisol and Emotional Eating.
·Taheri, S. et al. (2023). Sleep restriction effects on hunger hormones. Sleep Medicine Reviews, 58, 101437.
·Torres, S., & Nowson, C. (2023). Stress-induced eating behaviors. Psychoneuroendocrinology, 128, 105382.
·Wang, Y. et al. (2023). Hypothalamic-pituitary axis in appetite regulation. Endocrinology & Metabolism, 38(2), 203-218.
·Warren, J. et al. (2022). Mindful eating interventions: A meta-analysis. Appetite, 168, 105787.
·Xu, A. et al. (2022). Hunger and impulse purchases: A field study. Journal of Consumer Research, 49(3), 460-472.
·Zhang, Y. et al. (2022). Leptin resistance and overeating behaviors. Obesity Reviews, 23(7), e13254.
0 Comments