جدول المحتوى

الوعي في علم النفس: أسرار الصراع المذهل بين السلوكية والمعرفية

هل تعلم أن مفهوم الوعي كان مهمشاً في علم النفس لعقود كاملة؟ اكتشف أسرار الصراع المذهل بين المدرسة السلوكية والمعرفية حول الوعي في علم النفس.

رحلة الوعي في دهاليز العقل

تخيل معي طفلاً في الخامسة من عمره، يقف أمام المرآة متأملاً صورته للمرة الأولى بانتباه عميق، ثم يسأل والدته سؤالاً فلسفياً محيراً: “أمي، كيف أعرف أنني موجود؟”. تبتسم الأم مندهشة من عمق سؤال طفلها الصغير، لكنها لا تدرك أن هذا السؤال البسيط يختزل واحدة من أعقد الإشكاليات التي شغلت فلاسفة العلم وعلماء النفس عبر قرون من الزمن: ما هو الوعي؟ وكيف يتشكل؟

تشير الإحصائيات الحديثة إلى أن قرابة ٤٠٪ من المرضى النفسيين يعانون من اضطرابات مرتبطة بالوعي بشكل أو بآخر، بينما يقضي العلماء ما يزيد عن ١٠٠,٠٠٠ ساعة بحث سنوياً في محاولة لفك شفرة هذه الظاهرة الإنسانية العميقة. ولعل أكثر ما يثير الدهشة في دراسة الوعي هو ذلك الصراع المحتدم الذي دار لعقود طويلة بين مدرستين فكريتين كبيرتين: المدرسة السلوكية التي تنكرت للوعي تماماً واعتبرته خارج نطاق الدراسة العلمية، والمدرسة المعرفية التي أعادت اكتشافه وجعلته محوراً أساسياً في فهم السلوك الإنساني.

في هذا المقال، سنبحر في أعماق هذه الإشكالية المعرفية، مستكشفين الآفاق الفلسفية والتجريبية التي حاولت تفسير الوعي، ومقتفين أثر التحولات البراديغمية الكبرى التي عصفت بعلم النفس منذ نشأته وحتى اليوم.

المدرسة السلوكية ونفي الوعي: عندما أصبح العقل صندوقاً أسود

جذور الثورة السلوكية

مع بداية القرن العشرين، وفي خضم التحولات العميقة التي شهدها علم النفس، برزت المدرسة السلوكية بقيادة العالم الأمريكي John B. Watson الذي أطلق في عام ١٩١٣ بيانه الشهير “علم النفس كما يراه السلوكي”. كان هذا البيان بمثابة إعلان ثورة على المدرسة الاستبطانية التي كانت ترى في تأمل الوعي غاية علم النفس الأساسية. يقول المفكر المغربي عبد الكريم بلحاج في كتابه “إبستيمولوجيا المعرفة النفسية”: “لم يكن واطسون يهدف فقط إلى تقويض مفهوم الوعي، بل كان يسعى إلى تأسيس علم نفس موضوعي يخلو من أي شوائب ميتافيزيقية”.

منهجية دراسة السلوك بعيداً عن الوعي

اعتمدت المدرسة السلوكية على نموذج مبسط يعرف بنموذج المثير-الاستجابة (S-R)، حيث تم اختزال السلوك الإنساني إلى علاقات آلية بين المثيرات البيئية والاستجابات السلوكية. يقول Burrhus F. Skinner، أحد أقطاب السلوكية الراديكالية: “إن مفاهيم مثل الوعي والإرادة والعقل ليست سوى بقايا ما قبل العلم يجب التخلص منها”.

هذا الموقف المتشدد تجاه الوعي لم يكن نزوة عابرة بل كان موقفاً إبستمولوجياً مؤسساً على رؤية وضعية متشددة للعلم. وكما يقول المثل العربي: “ما لا يُقاس لا يُدرس”، وهو ما تبناه السلوكيون بحذافيره.

الإخفاقات النظرية للمقاربة السلوكية

رغم النجاحات التجريبية الباهرة التي حققتها السلوكية في دراسة التعلم الشرطي وتعديل السلوك، إلا أنها اصطدمت بإخفاقات نظرية جوهرية. فقد عجزت عن تفسير الظواهر المعقدة مثل اللغة والإبداع وحل المشكلات. يقول الباحث المغربي محمد مصطفى زيدان: “لقد وقعت السلوكية في مفارقة معرفية عميقة؛ فبينما سعت إلى تأسيس علم نفس علمي، فإنها أقصت أهم ما يميز الإنسان: قدرته على الوعي بذاته والعالم”.

الثورة المعرفية: إعادة اكتشاف الوعي

محطات تحول نموذجية

بدأت الثورة المعرفية تتشكل في خمسينيات القرن العشرين، مع ظهور إرهاصات أولية تمثلت في أعمال Edward Tolman حول “الخرائط المعرفية” والتعلم الكامن، ثم تعمقت مع دراسات Jean Piaget حول نمو الذكاء، لتتوج بنظرية معالجة المعلومات التي قدمها Ulric Neisser في كتابه “علم النفس المعرفي” عام ١٩٦٧.

يشير الدكتور المصطفى حجازي في دراساته المعمقة حول تطور الفكر النفسي إلى أن “التحول البراديغمي من السلوكية إلى المعرفية لم يكن مجرد تغيير في الموضوع، بل كان ثورة إبستمولوجية غيرت من طبيعة السؤال النفسي ذاته”.

مستويات الوعي في المنظور المعرفي

تعاملت المدرسة المعرفية مع الوعي كظاهرة متعددة المستويات، يمكن دراستها علمياً من خلال نماذج نظرية دقيقة. فقد ميز العالم Endel Tulving بين الوعي الماثل (Noetic Consciousness) المرتبط بالمعرفة العامة، والوعي التذكري (Autonoetic Consciousness) المرتبط بالذكريات الشخصية.

وعلى صعيد آخر، قدم Antonio Damasio تصنيفاً ثلاثياً للوعي يشمل:

  1. الوعي الأولي: الإحساس الفوري بالذات والعالم
  2. الوعي الأساسي: إدراك الذات كفاعل في العالم
  3. الوعي التأملي: القدرة على التفكير في الذات والخبرات الشخصية

هذه التصنيفات المتعددة للوعي تعكس تطابقاً مع الطرح الفلسفي التراثي العربي الذي ميز بين مستويات الإدراك كما نجد في أعمال ابن سينا والفارابي، مما يدل على عمق التفكير العربي الإسلامي في هذا المجال.

نماذج الوعي المعاصرة: من المعلومات إلى العصبونات

شهدت العقود الأخيرة تطوراً مذهلاً في نماذج الوعي المعرفية، من نموذج Bernard Baars للمساحة العمل العالمية (Global Workspace Theory) الذي يشبه الوعي بخشبة مسرح تظهر عليها المعلومات المنتقاة، إلى نظرية Daniel Dennett للمسودات المتعددة (Multiple Drafts Theory) التي ترى الوعي كعملية دينامية غير مركزية.

علم الأعصاب المعرفي: جسر بين العقل والدماغ

تقنيات التصوير العصبي وكشف أسرار الوعي

مع تطور تقنيات التصوير العصبي مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) والتخطيط الطبوغرافي للدماغ، أصبح بالإمكان مراقبة الدماغ وهو “يفكر”، مما فتح آفاقاً جديدة لدراسة الوعي. يقول الباحث المغربي محمد الميموني: “لم يعد الوعي ظاهرة غامضة تستعصي على البحث العلمي، بل أصبح مجالاً للتنقيب العصبي والإبستمولوجي معاً”.

نظرية التكامل المعلوماتي

قدم Giulio Tononi نظرية التكامل المعلوماتي للوعي (Integrated Information Theory) التي ترى أن الوعي هو خاصية ناشئة من تكامل المعلومات في الدماغ، وقد اقترح مقياساً رياضياً لقياس درجة الوعي يرمز له بالحرف (Φ). هذه المقاربة الكمية للوعي تمثل محاولة جادة لتجاوز الثنائية الديكارتية التي ظلت تؤرق الفلسفة لقرون.

حدود المقاربة العصبية للوعي

رغم التقدم الهائل في علم الأعصاب المعرفي، إلا أن ما يعرف بـ “المشكلة الصعبة للوعي” التي طرحها الفيلسوف David Chalmers لا تزال قائمة: لماذا تترافق العمليات العصبية مع خبرات ذاتية واعية؟ وكيف تتحول الإشارات الكهروكيميائية إلى مشاعر وأفكار؟

يشير المفكر المغربي جمال حمداوي إلى أن “الفجوة التفسيرية بين الدماغ والوعي تعكس حدود النموذج المادي في تفسير الظواهر النفسية”، ولعل هذا ما يفسر عودة الاهتمام بالمقاربات الفينومينولوجية التي تدرس الوعي من منظور الشخص الأول.

تطبيقات عملية: الوعي بين النظرية والممارسة

الوعي والعلاج النفسي المعرفي

مثلت إعادة اكتشاف الوعي في علم النفس المعرفي ثورة علاجية تمثلت في ظهور العلاج المعرفي على يد Aaron Beck والعلاج العقلاني الانفعالي بقيادة Albert Ellis. هذه الأساليب العلاجية تقوم على فكرة أساسية مفادها أن تغيير الوعي بالذات والعالم يمكن أن يؤدي إلى تغيير السلوك والمشاعر.

اليقظة الذهنية: مدرسة معاصرة لتنمية الوعي

ظهرت اليقظة الذهنية (Mindfulness) كتوجه معاصر يجمع بين التقاليد البوذية القديمة والمقاربات المعرفية الحديثة. تعرف Jon Kabat-Zinn اليقظة الذهنية بأنها “الوعي الناشئ عن الانتباه المقصود للحظة الراهنة دون إصدار أحكام”. وقد أظهرت الدراسات الحديثة فعالية هذا التوجه في علاج الاكتئاب والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة.

في الثقافة العربية الإسلامية، نجد تقاليد مشابهة في مفهوم “المراقبة” الصوفية التي تعني الوعي الدائم بالذات والحضور الروحي، مما يشير إلى عمق الخبرة العربية في مجال تنمية الوعي.

الذكاء الاصطناعي والوعي: آفاق مستقبلية

فتح تطور الذكاء الاصطناعي أبواباً جديدة للتفكير في طبيعة الوعي. فهل يمكن للآلات أن تكون واعية؟ يقترح عالم الحاسوب Roger Penrose في كتابه “العقل الجديد للملك” أن الوعي ظاهرة كمومية لا يمكن محاكاتها حاسوبياً، بينما يرى Ray Kurzweil إمكانية ظهور وعي اصطناعي مع تطور تقنيات الحوسبة العصبية.

الوعي والثقافة: منظور ما بعد معرفي

الأبعاد الثقافية والاجتماعية للوعي

تجاوزت المقاربات المعاصرة للوعي الإطار الفردي نحو دراسة الأبعاد الثقافية والاجتماعية للوعي. يقول عالم النفس الثقافي Richard Nisbett: “إن الطريقة التي ندرك بها العالم تتشكل بعمق وفقاً للسياق الثقافي الذي ننتمي إليه”.

وفي هذا السياق، يشير المفكر المغربي عبد الله العروي إلى أن “الوعي ليس مجرد عملية نفسية فردية، بل هو نتاج سيرورة تاريخية واجتماعية معقدة”. هذا الربط بين الوعي الفردي والوعي الجمعي يفتح آفاقاً بحثية واعدة تتجاوز الثنائية الكلاسيكية بين علم النفس وعلم الاجتماع.

نحو نموذج تكاملي للوعي

في ضوء المقاربات المتعددة للوعي، بات من الضروري التفكير في نموذج تكاملي يتجاوز الاستقطاب بين السلوكية والمعرفية. يقترح الباحث المغربي أحمد الدغرني مقاربة تكاملية تجمع بين:

  • البعد العصبي الفسيولوجي للوعي
  • البعد المعرفي الرمزي
  • البعد الوجودي الفينومينولوجي
  • البعد الاجتماعي الثقافي

هذه المقاربة التكاملية تتماشى مع المنظور الإسلامي التقليدي الذي لا يفصل بين الجسد والنفس والروح، مما يشكل جسراً معرفياً بين التراث والحداثة.

خاتمة: الوعي كأفق مفتوح للبحث والتأمل

بعد هذه الرحلة المعرفية في عوالم الوعي بين المدرستين السلوكية والمعرفية، نصل إلى نتيجة مفادها أن الوعي يبقى واحداً من أكثر الظواهر الإنسانية تعقيداً وغموضاً. فبينما أنكرته السلوكية وأقصته عن مجال البحث العلمي، أعادت المدرسة المعرفية اكتشافه وتأسيسه كمفهوم مركزي في فهم السلوك الإنساني.

إن المفارقة العميقة التي تواجهنا في دراسة الوعي هي أننا نستخدم الوعي ذاته لدراسة الوعي، وكما يقول المثل العربي القديم: “فاقد الشيء لا يعطيه”، فإن تجاهل الوعي كان يعني تجاهل جوهر الإنسانية ذاتها.

وختاماً، يبقى السؤال مفتوحاً: كيف تختبر وعيك الذاتي في حياتك اليومية؟ وهل تميل إلى المقاربة السلوكية العملية أم المقاربة المعرفية التأملية؟ شاركنا تجربتك الشخصية مع الوعي في التعليقات، فالمعرفة تنمو بتبادل الخبرات والأفكار!


الأسئلة الشائعة

<script type=”application/ld+json”> { “@context”: “https://schema.org”, “@type”: “FAQPage”, “mainEntity”: [ { “@type”: “Question”, “name”: “ما الفرق الأساسي بين نظرة المدرسة السلوكية والمدرسة المعرفية للوعي؟”, “acceptedAnswer”: { “@type”: “Answer”, “text”: “المدرسة السلوكية أنكرت الوعي واعتبرته مفهوماً غير قابل للدراسة العلمية، بينما أعادت المدرسة المعرفية الاعتبار للوعي وجعلته محوراً أساسياً في دراسة السلوك الإنساني من خلال نماذج نظرية وتجريبية متطورة.” } }, { “@type”: “Question”, “name”: “كيف يمكن تعريف الوعي من منظور علم النفس المعرفي؟”, “acceptedAnswer”: { “@type”: “Answer”, “text”: “يُعرّف الوعي في علم النفس المعرفي بأنه عملية معرفية عليا تتضمن إدراك الذات والعالم، ومعالجة المعلومات بشكل واعٍ ومقصود، ويتضمن عدة مستويات من الوعي الأولي البسيط إلى الوعي التأملي المعقد.” } }, { “@type”: “Question”, “name”: “ما هي أبرز التطبيقات العملية لدراسة الوعي في مجال العلاج النفسي؟”, “acceptedAnswer”: { “@type”: “Answer”, “text”: “تشمل التطبيقات العملية لدراسة الوعي: العلاج المعرفي السلوكي الذي يركز على تغيير الأفكار والمعتقدات، تقنيات اليقظة الذهنية التي تعزز الوعي باللحظة الراهنة، والعلاجات القائمة على الوعي بالذات مثل العلاج المرتكز على التعاطف الذاتي والعلاج بالقبول والالتزام.” } } ] } </script>

Categories: Uncategorized

0 Comments

Leave a Reply

Avatar placeholder

Your email address will not be published. Required fields are marked *